فصل: قال السمرقندي في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود في الآيات السابقة:

{وأنّا مِنّا المسلمون ومِنّا القاسطون}
الجائرون عن طريقِ الحقِّ الذي هو الإيمانُ والطّاعةُ {فمنْ أسْلم فأُوْلئِك} إشارةٌ إلى منْ أسلم والجمعُ باعتبارِ المعْنى {تحرّوْاْ} توخّوا {رشدا} عظيما يبلغُهم إلى دار الثوابِ {وأمّا القاسطون} الجائرون عن سنن الإسلامِ {فكانُواْ لِجهنّم حطبا} تُوقدُ بهم كما تُوقدُ بكفرةِ الإنسِ {وإِنّ لُوطا استقاموا} أنْ مخففةٌ من الثقيلةِ، والجملة معطوفةٌ قطعا على أنّه استمع والمعْنى وأوحي إليّ أنّ الشأن لو استقام الجِنُّ والإنسُ أو كلاهُما {على الطريقة} التي هي ملّةُ الإسلامِ {لأسقيناهم مّاء غدقا} أيْ لوسّعنا عليهم الرزق وتخصيصُ الماءِ الغدقِ وهو الكثيرُ بالذكر، لأنّه أصلُ المعاشِ والسّعةِ ولعزةِ وجودِه بين العربِ وقيل: لو استقام الجنُّ على الطريقةِ المُثْلى أي لو ثبت أبُوهم الجانُّ على ما كان عليه من عبادة الله تعالى وطاعتِه ولم يتكبرْ عن السجود لآدم عليه السلام ولم يكفرُ وتبعه ولدُه في الإسلامِ لأنعمنا عليهم ووسّعنا رزقهم {لِنفْتِنهُمْ فِيهِ} لنختبرهُم كيف يشكرونهُ وقيل: معناهُ إنّه لو استقام الجنُّ على طريقتِهم القديمةِ ولم يسلموا باستماع القرآن لوسّعنا عليهم الرزق استدارجا لنوقعهُم في الفتنةِ ونعذبهم في كُفرانِ النعمةِ {ومن يُعْرِضْ عن ذِكْرِ ربّهِ} عن عبادتِه أو عن موعظتِه أو وحيهِ {يسْلُكْهُ} يُدخله {عذابا صعدا} أي شاقّا صعبا يعلُو المعذب ويغلبُه على أنّه مصدرٌ وصف به مبالغة.
{وأنّ المساجد لِلّهِ} عطف على قوله تعالى أنّه استمع أي وأوحي إليّ أنّ المساجد مختصّةٌ بالله تعالى وقيل: معناهُ ولأنّ المساجد لله {فلا تدْعُواْ} أي لا تعبدُوا فيها {مع الله أحدا} غيره. وقيل: المرادُ بالمساجدِ المسجدُ الحرامُ والجمعُ لأنّ كلّ ناحيةٍ منْهُ مسجدٌ له قبلةٌ مخصوصةٌ أو لأنّه قبلة المساجدِ وقيل: الأرضُ كلُّها لأنّها جعلتْ مسجدا للنبيِّ عليهِ الصّلاةُ والسّلامُ وقيل: مواضعُ السجودِ على أنّ المراد نهيُ السجودِ لغير الله تعالى وقيل: أعضاءُ السجودِ السبعةُ وقيل: السجداتُ على أنّه جمعُ المصدرِ الميميِّ {وأنّهُ} من جملة المُوحى أي وأوحي إليّ أنّ الشأن {لّما قام عبْدُ الله} أي النبيُّ عليهِ الصّلاةُ والسّلامُ وإيرادُه بلفطِ العبدِ للإشعارِ بما هُو المُقتضِي لقيامِه وعبادتِه للتواضعِ لأنّه واقعٌ موقع كلامِه عن نفسِه {يدْعُوهُ} حالٌ من فاعلِ قام أي يعبدُه وذلك قيامُه لصلاةِ الفجرِ بنخلة كما مرّ تفصيلُه في سورةِ الأحقافِ. {كادُواْ} أي الجنُّ {يكُونُون عليْهِ لِبدا} متراكمين من ازدحامِهم عليه تعجبا ممّا شاهدُوا من عبادتِه وسمعُوا من قراءته واقتداءِ أصحابِه بهِ قياما وركوعا وسجودا لأنّهم رأوا ما لم يروا مثلهُ وسمعُوا بما لم يسمعُوا بنظيرِه وقيل: معناهُ لمّا قام عليهِ الصّلاةُ والسّلامُ يعبدُ الله وحدهُ مخالفا للمشركين كاد المشركون يزدحون عليه متراكمين واللِّبدُ جمعُ لبدةٍ وهي ما تلبّد بعضُه على بعضٍ، ومنها لبدةُ الأسدِ. وقرئ {لبُدُا} جمعُ لبدةٍ وهي بمعنى اللبدةِ ولُبّد جمع لابدٍ كساجدٍ وسُجّدٍ ولُبْدا بضمتينِ جمعُ لبُودٍ كصبُورٍ وصُبُرٍ وعن قتادة تلبدتِ الإنسُ والجنُّ على هذا الأمرِ ليطفئُوه فأبى الله ألا أنْ يظهرهُ على منْ ناوأه.
{قُلْ إِنّما أدْعُو} أي أعبدُ {ربّى ولا أُشْرِكُ بِهِ} بربِّي في العبادةِ {أحدا} فليس ذلك ببدعٍ ولا مستنكرٍ يوجبُ التعجب أو الإطباق على عداوتِي. وقرئ {قال} على أنّه حكايةٌ لقوله عليهِ الصّلاةُ والسّلامُ للمتراكمين عليهِ والأولُ هُو الأظهرُ والأوفقُ لقوله تعالى: {قُلْ إِنّى لا أمْلِكُ لكُمْ ضرّا ولا رشدا} كأنّه أريد لا أملكُ لكُم ضرا ولا نفعا ولا غيا ولا رشدا فترك منْ كِلا المتقابلينِ ما ذُكِر في الآخر. {قُلْ إِنّى لن يُجِيرنِى مِن الله أحدٌ} إنْ أرادني بسوءٍ {ولنْ أجِد مِن دُونِهِ مُلْتحدا} ملتجأ ومعدلا هذا بيانٌ لعجزِه عليهِ الصّلاةُ والسّلامُ عن شؤونِ نفسِه بعد بيانِ عجزِه عليهِ الصّلاةُ والسّلاةُ عن شؤونِ غيرِه. وقوله تعالى: {إِلاّ بلاغا مِّن الله} استئناءٌ من قوله: {لا أملكُ}، فإنّ التبليغ إرشادٌ ونفعٌ وما بينهما اعتراضٌ مؤكدٌ لنفي الاستطاعة أو منْ مُلتحدا أي لنْ أجد من دونه منجا إلا أنْ أُبلغ عنه ما أرسلنِي به، وقيل: إلاّ مركبةٌ من إنِ الشرطيةِ ولا النافيةِ ومعناهُ أنْ لا أبلغ بلاغا من الله والجوابُ محذوفٌ لدلالة ما قبلهُ عليهِ {ورسالاته} عطف على {بلاغا} و{من الله} صفتُه لا صلتُه أي لا أملكُ لكُم إلا تبليغا كائنا منهُ تعالى ورسالاتِه التي أرسلني بها {ومن يعْصِ الله ورسُولهُ} في الأمرِ بالتوحيد إذ الكلامُ فيه {فأنّ لهُ نار جهنّم} وقرئ بفتح الهمزة على معنى فحقُّه أو فجزاؤه أنّ له نار جهنم {خالدين فِيها} في النار أو في جهنم والجمعُ باعتبار المعْنى {أبدا} بلا نهايةٍ.
وقوله تعالى: {حتى إِذا رأوْاْ ما يُوعدُون}
غايةٌ لمحذوف يدلُّ عليه الحالُ من استضعاف الكفارِ لأنصارِه عليه الصّلاةُ والسّلامُ واستقلالِهم لعدده كأنّه قيل لا يزالون على ما هُم عليهِ حتّى إذا رأوا ما يُوعدون من فنون العذابِ في الآخرة {فسيعْلمُون} حينئذٍ {منْ أضْعفُ ناصِرا وأقلُّ عددا} وحُمل ما يُوعدون على ما رأوه يوم بدر يأباه قوله تعالى: {قُلْ إِنْ أدْرِى} أي ما أدْرِي {أقرِيبٌ مّا تُوعدُون أمْ يجْعلُ لهُ ربّى أمدا} فإنه ردٌّ لما قاله المشركون عند سماعِهم ذلك متى يكونُ ذلك الموعدُ إنكارا له واستهزاء به فقيل قُل إنه كائنٌ لا محالة وأما وقتُه فما أدْرِي متى يكونُ {عالم الغيب} بالرفعِ قيل: هو بدلٌ من {ربِّي} أو عطف بيانٍ له ويأباهُ الفاءُ في قوله تعالى: {فلا يُظْهِرُ على غيْبِهِ أحدا} إذ يكونُ النظمُ حينئذٍ أمْ يجعلُ له عالمُ الغيبِ أمدا فلا يُظهر عليهِ أحدا، وفيهِ من الاختلالِ ما لا يخْفى فهو خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أيْ هُو عالمُ الغيبِ. والجملة استئنافٌ مُقررٌ لما قبلهُ من عدم الدرايةِ والفاءُ لترتيب عدمِ الإظهارِ على تفرده تعالى بعلم الغيبِ على الاطلاق أي فلا يُطلْعُ على غيبِه إطلاعا كاملا ينكشفُ به جليةُ الحالِ انكشافا تاما مرجبا لعين اليقينِ أحدا من خلقه {إِلاّ منِ ارتضى مِن رّسُولٍ} أي إلا رسولا ارتضاهُ لإظهارِه على بعضِ غيوبهِ المتعلقةِ برسالتِه كما يُعربُ عنه بيانُ من ارتضى بالرسول تعلقا تاما إما لكونه من مبادئِ رسالتِه بأنْ يكون معجزة دالة على صحتها وإما لكونه من أركانِها وأحكامِها كعامّة التكاليفِ الشرعيةِ التي أُمر بها المكلفون، وكيفياتِ أعمالِهم وأجزيتِها المترتبةِ عليها في الآخرةِ وما تتوقفُ هي عليهِ من أحوالِ الآخرةِ التي من جُمْلتِها قيامُ الساعةِ والبعثُ وغيرُ ذلك من الأمورِ الغيبيةِ التي بيانُها من وظائفِ الرسالةِ، وأما ما لا يتعلقُ بها على أحد الوجهينِ من الغيوبِ التي من جُمْلتِها وقتُ قيامِ الساعةِ فلا يُظهر عليهِ أحدا أبدا على أنّ بيان وقتِه مخلٌّ بالحكمةِ التشريعيةِ التي عليها يدورُ فلكُ الرسالةِ وليس فيه ما يدلُّ على نفي كراماتِ الأولياءِ المتعلقةِ بالكشفِ فإنّ اختصاص الغايةِ القاصيةِ من مراتب الكشفِ بالرسل لا يستلزمُ عدم حصولِ مرتبةٍ ما منْ تلك المراتبِ لغيرِهم أصلا ولا يدّعِي أحدٌ لأحدٍ من الأولياءِ ما في رتبةِ الرُّسلِ عليهم السّلامُ من الكشفِ الكاملِ الحاصلِ بالوحي الصريحِ. وقوله تعالى: {فإِنّهُ يسْلُكُ مِن بيْنِ يديْهِ ومِنْ خلْفِهِ رصدا} تقريرٌ وتحقيقٌ للإظهارِ المستفادِ من الاستثناءِ وبيانٌ لكيفيته أي فإنّه يسلكُ من جميع جوانبِ الرسولِ عليه السلام عند إظهارِه على غيبه حرسا من الملائكةِ يحرسُونه من تعرضِ الشياطينِ لما أظهرُه عليهِ من الغيوبِ المتعلقةِ يرسالتِه.
وقوله تعالى: {لّيعْلم أن قدْ أبْلغُواْ رسالات ربّهِمْ} متعلقٌ بـ: {يسلكُ} غايةٌ لهُ من حيثُ إنّه مترتبٌ على الإبلاغ المترتبِ عليه إذ المرادُ به العلمُ المتعلقُ بالإبلاغ الموجود بالفعلِ، وأنْ مخففةٌ من الثقيلةِ واسمُها الذي هو ضميرُ الشأنِ محذوفٌ والجملة خبرُها، و{رسالاتِ ربِّهم} عبارةٌ عن الغيبِ الذي أُريد إظهارُ المُرتضى عليهِ والجمعُ باعتبار تعددِ أفرادِه، وضميرُ {أبلغُوا} إمّا للرصدِ فالمعْنى أنّه تعالى يسلُكهم من جميع جوانبِ المرتضى ليعلم أنّ الشأن قد أبلغُوه رسالاتِ ربِّهم سالمة عن الاختطافِ والتخليط علما مستتبعا للجزاءِ، وهُو أنْ يعلمُه موجودا حاصلا بالفعل كما في قوله تعالى: {حتى نعْلم المجاهدين} والغايةُ في الحقيقه هو الإبلاغُ والجهادُ وإيرادُ علمهِ تعالى لإبراز اعتنائِه تعالى بأمرِهما والإشعار بترتيب الجزاءِ عليهما والمبالغة في الحثِّ عليهما والتحذير عن التفريط فيهما وإما لمن ارتضى والجمعُ باعتبارِ معْنى منْ كما أنّ الإفراد في الضميرين السابقينِ باعتبار لفظِهما فالمعْنى ليعلم أنّه قد أبلغ الرسل الموحى إليهم رسالات ربِّهم إلى أُممهم كما هي من غير اختطافٍ ولا تخليطِ بعد ما أبلغها الرصدُ إليهم كذلك. وقوله تعالى: {وأحاط بِما لديْهِمْ} أيْ بما عند الرّصدِ أو الرُّسلِ عليهم السّلامُ حالٌ من فاعلِ يسلكُ بإضمارِ قدْ أو بدونِه على الخلافِ المشهورِ جيء بها لتحقيقِ استغنائِه تعالى في العلمِ بالإبلاغِ عمّا ذُكِر من سلكِ الرصدِ على الوجِه المذكورِ أي يسلكُهم بين يديه ومن خلفه يترتبُ عليه علمُه تعالى بما ذُكِر والحالُ أنّه تعالى قد أحاط بما لديِهم من الأحوالِ جميعا.
{وأحصى كُلّ شيْء} مما كان وما سيكونُ {عددا} أي فردا فردا وهُو تمييزٌ منقول من المفعول به كقوله تعالى: {وفجّرْنا الأرض عُيُونا} والأصلُ أحصى عدد كلِّ شيءٍ وقيل: هو حالٌ أي معدودا محصورا أو مصدرٌ بمعْنى إحصاء وأيّا ما كان ففائدتُه بيانُ أنّ علمهُ تعالى بالأشياء ليس على وجهٍ كلي إجمالي بلْ على وجهٍ جزئي تفصيلي فإنّ الإحصاء قد يرادُ به الإحاطةُ الإجماليةُ كما في قوله تعالى: {وإِن تعُدُّواْ نِعْمة الله لا تُحْصُوها} أي لا تقدروا على حصرها إجمالا فضلا عن التفصيلِ وذلك لأنّ أصل الإحصاءِ أنّ الحاسب إذا بلغ عقدا معينا من عُقودِ الأعدادِ كالعشرةِ والمائةِ والألفِ وضع حصاة ليحفظ بها كمية ذلك العقدِ فيبنِي على ذلك حسابهُ هذا وأمّا ما قيل: مِنْ أنّ قوله تعالى: {وأحاط بِما لديْهِمْ} إلخ معطوف على مقدرٍ يدلُّ عليه قوله تعالى: {ليعلم} كأنه قيل: قد علم ذلك وأحاط بما لديهم إلخ فبمعزلٍ من السدادِ. اهـ.

.قال السمرقندي في الآيات السابقة:

قوله تعالى: {قُلْ أوحي إليّ} يعني: قل يا محمد أوحى الله إلي، وأخبرني الله تعالى في القرآن.
{أنّهُ استمع نفرٌ مّن الجن}، وهم تسعة من أهل نصيبين، من أهل اليمن، من أشرافهم.
والنفر ما بين الثلاثة إلى العشرة.
وروى سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم مع طائفة من أصحابه، عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين السماء أي: بين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب، فقالوا: ما هذا إلا لشيء حدث؛ فضربوا مشارق الأرض ومغاربها، يبتغون ما هذا الذي حال بينهم وبين خبر السماء.
فوجدوا النفر الذين خرجوا نحو تهامة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بنخلة، وهو يصلي مع أصحابه صلاة الفجر، فاستمعوا منه، فقالوا: هذا والله الذي حال بيننا وبين خبر السماء.
فرجعوا إلى قومهم {فقالواْ إِنّا سمِعْنا قُرْءانا عجبا يهْدِى إِلى الرشد}، فأنزل الله تعالى: {قُلْ أوحي إليّ أنّهُ استمع نفرٌ مّن الجن} يعني: طائفة وجماعة من الجن، فقالوا: {إِنّا سمِعْنا} يعني: قالوا بعدما رجعوا إلى قومهم: {قُلْ أوحي إليّ أنّهُ} يعني: عزيزا شريفا كريما، ويقال: عزيزا لا يوجد مثله.
{يهْدِى إِلى الرشد} يعني: يدعو إلى الهدى، وهو الإسلام.
ويقال: إلى الصواب، والتوحيد، والأمر والنهي.
ويقال: يدل على الحق.
{يهْدِى إِلى} يعني: صدقنا بالقرآن.
ويقال: آمنا بالله تعالى.
{ولن نُّشرِك بِربّنا أحدا} يعني: إبليس، يعني: لن نشرك بعبادته أحدا من خلقه.
ثم قال عز وجل: {وأنّهُ تعالى جدُّ ربّنا} أي: ارتفع عظمة ربنا؛ ويقال: ارتفع ذكره، ويقال: ارتفع ملكه وسلطانه.
{ما اتخذ صاحبة ولا ولدا} يعني: لم يتخذ زوجة ولا ولدا، كما زعم الكفار.
واتفق القراء في قوله: {أنّهُ استمع نفرٌ} على نصب الألف، لأن معناه قل: أوحي إليّ بأنه استمع.
واتفقوا في قوله: {إِنّا سمِعْنا} على الكسر، لأنه على معنى الابتداء.
واختلفوا فيما سوى ذلك.
قرأ حمزة، والكسائي، وابن عامر كلها بالنصب بناء على قوله: {أنّهُ استمع}، إلا في حرفين أحدهما {فأنّ لهُ نار جهنّم} بالكسر، والأخرى قوله: {فإِنّهُ يسْلُكُ مِن بيْنِ يديْهِ} بالكسر على معنى الابتداء.
وقرأ أبو عمرو، وابن كثير كلها بالكسر، إلا في أربعة أحرف: {قُلْ أوحي إليّ أنّهُ استمع}، {وإِنّ لُوطا استقاموا}، {وأنّ المساجد}، {وأنّهُ لّما قام عبْدُ الله يدْعُوهُ}.
قرأ عاصم في رواية أبي بكر، ونافع في إحدى الروايتين هكذا، إلا في قوله: {وأنه لما قام عبد الله} وإنما اختاروا الكسر لهذه الأحرف، بناء على قوله: {إِنّا سمِعْنا} وقال أبو عبيد: ما كان من قول الجن، فهو كسر، ومعناه وقالوا: إنه تعالى وقالوا إِنّهُ كان يِقول. وما كان محمولا على قوله: {أوحي} فهو نصب على معنى أوحي إليّ أنه ثم قال: {وأنّهُ كان يقول سفِيهُنا على الله شططا} يعني: جاهلنا يعني: إبليس لعنه الله ويقال: {وأنّهُ كان يقول سفِيهُنا} يعني: كفرة الجن.
{على الله شططا} يعني: كذبا وجورا من المقال.
ثم قال عز وجل: {وأنّا ظننّا} يعني: حسبنا {أن لّن تقول الإنس والجن على الله كذِبا} يعني نتوهم أن أحدا لا يكذب على الله، وإلى هاهنا حكاية كلام الجن.
يقول الله تعالى: {وأنّهُ كان رِجالٌ مّن الإنس} يعني: في الجاهلية {يعُوذُون بِرِجالٍ مّن الجن}، وذلك أن الرجل إذا نزل في فضاء من الأرض، كان يقول أعوذ بسيد هذا الوادي، فيكون في أمانهم تلك الليلة.
{فزادوهُمْ رهقا} يعني: زادوا للجن عظمة وتكبروا، ويقولون: بلغ من سُؤُدُدنا أن الجن والإنس يطلبون منا الأمان، {وأنّهُمْ ظنُّواْ كما ظننتُمْ} يعني: كفار الجن حسبوا كما حسبتم يا أهل مكة، {أن لّن يبْعث الله أحدا} يعني: بعد الموت، يعني: إنهم كانوا غير مؤمنين، كما أنكم لا تؤمنون.
ويقال: إنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا يعني: رسولا.
فقد أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم.
ثم رجع إلى كلام الجن، فقال: {وأنّا لمسْنا السماء} يعني: صعدنا وأتينا السماء لاستراق السمع.
{فوجدناها مُلِئتْ حرسا شدِيدا} يعني: حفاظا أقوياء من الملائكة.
{وشُهُبا} يعني: رُمينا نجما متوقدا.
{وأنّا كُنّا نقْعُدُ مِنْها مقاعد لِلسّمْعِ} يعني: كنا نقعد فيما مضى للاستماع من الملائكة، ما يقولون فيما بينهم من الكوائن.
{فمن يسْتمِعِ الان يجِدْ لهُ شِهابا رّصدا} يعني: نجما مضيئا.
والرصد: الذي أرصد للرجم يعني: النجم.
وروى عبد الرزاق، عن معمر قال: قلت للزهري: أكان يرمى بالنجوم في الجاهلية؟ قال: نعم.
قلت: أفرأيت قوله: {فمن يسْتمِعِ الان يجِدْ لهُ شِهابا رّصدا} قال: غلظ وشدد أمرها حين بُعث النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الجن بعضهم لبعض: {وأنّا لا ندْرِى أشرٌّ أُرِيد بِمن في الأرض}؟ يعني: يبعثه فلم يؤمنوا فيهلكوا {أمْ أراد بِهِمْ ربُّهُمْ رشدا}؟ يعني: خيرا وصوابا، فيؤمنوا ويهتدوا.
ويقال: لا ندري أخيرا أريد بأهل الأرض أو الشرحين حرست السماء، ورُمينا بالنجوم، ومُنعنا السمع؟ ويقال: أريد عذابا بمن في الأرض، بإرسال الرسول بالتكذيب له، أو أراد بهم ربهم خيرا ببيان الرسول لهم هدى وبيانا.
ثم قال عز وجل: {وأنّا مِنّا الصالحون} يعني: الموحدين والمسلمين.
{ومِنّا دُون ذلِك} يعني: ليسوا بموحدين.
{كُنّا طرائِق قِددا} يعني: فينا أهواء مختلفة وملل شتى.
وقال القتبي: يعني: فرقا مختلفة، وكل فرقة قدة مثل القطعة في التقدير، والطرائق: جمع الطريق.
قوله تعالى: {وأنّا ظننّا} يعني: علمنا وأيقنا {أن لّن نُّعْجِز الله في الأرض} يعني: لا يفوت أحد من الله تعالى.
{ولن نُّعْجِزهُ هربا}، لا يقدر الهرب منه.
قال الله عز وجل: {وأنّا لمّا سمِعْنا الهدى} يعني: القرآن يقرؤه محمد صلى الله عليه وسلم، {بِهِ إِنّهُ} يعني: صدقنا بالقرآن؛ ويقال: بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ ويقال: صدقنا بالله تعالى {فمن يُؤْمِن بِربّهِ} قال بعضهم هذا من كلام الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم فمن يصدق بوحدانية الله تعالى، {فلا يخافُ بخْسا} يعني: نقصانا من ثواب عمله، {ولا رهقا} يعني: ذهاب عمله.
وهذا كقوله تعالى: {فلا يخافُ ظُلْما ولا هضْما}.
{ومن يعْملْ مِن الصالحات وهُو مُؤْمِنٌ فلا يخافُ ظُلْما ولا هضْما} [طه: 112] ويقال: هذا كلام الجن بعضهم لبعض، {فمن يُؤْمِن بِربّهِ فلا يخافُ بخْسا ولا رهقا}.
والرهق: الظلم أن يجعل ثواب عمله لغيره.
والبخس النقصان من ثواب عمله.
قوله تعالى: {وأنّا مِنّا المسلمون} يعني: المصدقين بوحدانية الله تعالى، {ومِنّا القاسطون} يعني: العادلين عن طريق الهدى؛ ويقال: {القاسطون} يعني: الجائرين.
يقال: قسط الرجل، إذا جار.
وأقسط، إذا عدل.
كقوله تعالى: {إِنّ الله يُحِبُّ المقسطين}.
ثم قال: {فمنْ أسْلم} يعني: أقر بوحدانية الله تعالى وأخلص بالتوحيد له، {فأُوْلئِك تحرّوْاْ رشدا} يعني: نورا وتمنوا وقصدوا ثوابا.
ثم قال عز وجل: {وأمّا القاسطون} يعني: العادلين عن الطريق، الجائرين، {فكانُواْ لِجهنّم حطبا} يعني: وقودا قال الله تعالى: {وإِنّ لُوطا استقاموا على الطريقة}.
قال مقاتل: لو استقاموا على طريقة الهدى، يعني: أهل مكة، {لاسقيناهم مّاء غدقا} يعني: كثيرا من السماء، كقوله: {ولوْ أنّ أهْل القرى ءامنُواْ واتقوا لفتحْنا عليْهِم بركات مِّن السماء والأرض ولكن كذّبُواْ فأخذناهم بِما كانُواْ يكْسِبُون} [الأعراف: 96] ثم قال عز وجل: {لِنفْتِنهُمْ فِيهِ} يعني: لنبتليهم به، كقوله: {ولوْلا أن يكُون الناس أُمّة واحدة لّجعلْنا لِمن يكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ سُقُفا مِّن فِضّةٍ ومعارِج عليْها يظْهرُون} [الزخرف: 33] الآية.
وقال قتادة: {وإِنّ لُوطا استقاموا على الطريقة}، يعني: آمنوا لوسّع الله عليهم الرزق؛ وقال القتبي: هذا مثل ضربه الله تعالى للزيادة في أموالهم ومواشيهم، كقوله: {ولوْلا أن يكُون الناس} ثم قال: {ومن يُعْرِضْ عن ذِكْرِ ربّهِ} يعني: توحيد ربه؛ ويقال: يكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن، {يسْلُكْهُ عذابا صعدا} يعني: يكلفه الصعود على جبل أملس.
وقال مقاتل: {عذابا صعدا} أي: شدة العذاب.
وقال القتبي: يعني: شاقا؛ وقال قتادة: صعودا من عذاب الله تعالى، لا راحة فيه.
ثم قال عز وجل: {وأنّ المساجد لِلّهِ}.
قال الحسن: يعني: الصلاة لله تعالى؛ وقال قتادة: كانت اليهود والنصارى يدخلون كنائسهم، ويشركون بالله تعالى.
فأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يخلص الدعوة له إذا دخل المسجد.
وقال القتبي: قوله: {وأنّ المساجد لِلّهِ} يعني: السجود لله.
ويقال: هي المساجد بعينها يعني: بنيت المساجد، ليعبدوا الله تعالى فيها.
{فلا تدْعُواْ مع الله أحدا} يعني: لا تعبدوا أحدا غير الله تعالى.
قرأ حمزة، والكسائي، وعاصم {يسْلُكْهُ} بالياء، والباقون بالنون، وكلاهما يرجع إلى معنى واحد.
يقال: سلكت الخيط في الإبرة وأسلكته، إذا أدخلته.
قوله عز وجل: {وأنّهُ لّما قام عبْدُ الله} يعني: محمدا صلى الله عليه وسلم لما قام إلى الصلاة ببطن نخلة.
{يدْعُوهُ} يعني: يصلي لله تعالى، ويقرأ كتابه.
{كادُواْ يكُونُون عليْهِ لِبدا} يعني: يركب بعضهم بعضا، ويقع بعضهم على بعض.
ثم قال عز وجل: {قُلْ إِنّما أدْعُو ربّى}.
قرأ حمزة، وعاصم: {قُلْ إِنّما أدْعُو ربّى} على معنى الأمر، يعني: قل يا محمد إنما أدعو ربي، يعني: أعبده.
{ولا أُشْرِكُ بِهِ أحدا}.
قرأ الباقون على معنى الخبر عنهم.
قرأ ابن عامر في رواية هشام {عليْهِ لِبدا} بضم اللام، والباقون بكسرها ومعناهما واحد.
وقال القتبي: {يكُونُون عليْهِ لِبدا} أي: يتلبدون به رغبة في استماع القرآن.
يقال: لبدت به، أي: لصقت به، ومعناه: كادوا أن يلصقوا به.
قوله تعالى: {قُلْ إِنّى لا أمْلِكُ لكُمْ ضرّا ولا رشدا} يعني: لا أقدر لكم خذلانا ولا هداية.
قوله تعالى: {قُلْ إِنّى لن يُجِيرنِى مِن الله أحدٌ} يعني: لن يمنعني من عذاب الله أحد إن عصيته، {ولنْ أجِد مِن دُونِهِ مُلْتحدا} يعني: ملجأ ولا مفرا.
{إِلاّ بلاغا مِّن الله ورسالاته} يعني: فذلك الذي يجيرني من عذاب الله؛ ويقال في الآية تقديم، ومعناه قل: لا أملك لكم ضرا إلا أن أبلغكم رسالات ربي، يعني: ليس بيدي شيء من الضر والنفع والهداية، إلا بتبليغ الرسالة.
{ومن يعْصِ الله ورسُولهُ} في التوحيد، ولم يؤمن به، {فإِنّ لهُ نار جهنّم خالدين فِيها أبدا} أي: مقيمين في النار أبدا، يعني: دائما.
وقد تم الكلام.
ثم قال عز وجل: {حتى إِذا رأوْاْ ما يُوعدُون} من العذاب يعني: لما رأوا العذاب، ويقال: معناه أمهلهم حتى إذا رأوا ما يوعدون في الدنيا وفي الآخرة، {فسيعْلمُون منْ هُو أضْعفُ ناصِرا} يعني: مانعا من العذاب.
{وأقلُّ عددا} يعني: رجالا.
فقالوا: متى هذا العذاب الذي تعدنا يا محمد؟ فنزل: {قُلْ إِنْ أدْرِى أقرِيبٌ مّا تُوعدُون} يعني: ما أدري أقريب ما توعدون من العذاب، {أمْ يجْعلُ لهُ ربّى أمدا}؟ يعني: أجلا ينتهي إليه.
قوله تعالى: {عالم الغيب} يعني: هو عالم الغيب، {فلا يُظْهِرُ على غيْبِهِ أحدا} يعني: هو الذي يعلم وقت نزول العذاب، ولا يطلع على غيبه أحدا من خلقه.
قوله تعالى: {إِلاّ منِ ارتضى مِن رّسُولٍ} يعني: إلا من اختار لرسالته، فإنه يطلعه على ما يشاء من الغيب، ليكون دلالة لنبوته.
{فإِنّهُ يسْلُكُ مِن بيْنِ يديْهِ ومِنْ خلْفِهِ رصدا} يعني: من الملائكة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن خلفه، ليحفظوه من الشياطين {لّيعْلم أن قدْ أبْلغُواْ رسالات ربّهِمْ} يعني: ليعلموا الرسول أن الذي أنزل إليه من رسالات الله؛ وذلك أن الملائكة لو لم يرصدوهم، لما يستمعوا حين يقرأ جبريل، ثم يفشون ذلك قبل أن يخبرهم الرسول، فلا يكون بينهم وبين الأنبياء فرق، ولا يكون للأنبياء دلالة، ثم لا يقبل قولهم.
وروى أسباط، عن السدي في قوله: {إِلاّ منِ ارتضى مِن رّسُولٍ فإِنّهُ يسْلُكُ مِن بيْنِ يديْهِ ومِنْ خلْفِهِ رصدا} إذا بعث إليه تعالى نبيا، جعل معه حفظة من الملائكة.
فإذا جاء الوحي من الله تعالى، قالت الملائكة: هذا من الله.
فإذا جاءه الشيطان، قالت الحفظة: هذا من الشيطان.
{لّيعْلم أن قدْ أبْلغُواْ رسالات ربّهِمْ} يعني: ليعلم الجن أن الرسل قد أبلغوا الرسالة لأنهم تمازحوا من استراق السمع.
وقال سعيد بن جبير: لم يجيء جبريل قط بالقرآن، إلا ومعه أربعة من الحفظة.
ثم قال عز وجل: {وأحاط بِما لديْهِمْ} يعني: الله تعالى عالم بما عند الأنبياء؛ ويقال: عالم بهم.
{وأحصى كُلّ شيء عددا} يعني: عدد الملائكة، وعلم نزول العذاب ووقته وغير ذلك؛ والله أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. اهـ.